لغة الضاد تعاني من إهمال أهلها وقسوة رافضيها : دعم سوق العمل للانجليزية دفع اللغة العربية إلى الصفوف الخلفية
في خضم كل ما يتم التحضير له من البنود المعتادة لهذه الاحتفالية الأهمّ في حياتنا لتعلقها بلغة قرآننا الكريم، ولسان رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي خاطب به البشرية حين نزول الوحي قبيل نحو 1440 عاماً، فالواقع المرئي والمسموع يسجل أحداثاً غاية في القسوة تتعرض لها “العربية الأم” من إهانات يومية متوالية على ألسنة لا تستطيع نطقها بصورة صحيحة، وأخرى ترفض التحدث بها، وتلجأ من منطلق “عقدة الخواجة” إلى التحدث بالانجليزية أو لغات أخرى، متبرئة بذلك من لغة الضاد الأرقى بين غيرها، إضافة إلى عولمة قضت على كثير من الأصالة الفكرية واللفظية وأدت بكثير من أبناء العروبة إلى اتهام لغتهم الفصحى والجميلة بالتخلف والرجعية، وأهانوا فيها المفردات الشاملة والمعجم الثري، والمساحات الشاسعة للتعبير والإلقاء والوصف والحديث وغيره، وخرجوا من ثوبها المتكامل ووعائها اللغوي المتسع، إلى التشدق بألفاظ عوجاء عرجاء لا تمتّ لها ولا لغيرها بصلة.
لغتنا الحبيبة، لسان حالنا ونجوانا وشكوانا وفرحنا وزهونا وفخرنا، تغتال عن سبق إصرار وترصد، عن تعمد واضح بلا أي مبررات سوى ادعاء زائف بتحضر ذهب بالأصالة وأطاح بالحضارة وقضى على المرجعية الحقيقية، والحقيقة فهي حداثة لا ترتكز على أساس، بل نبتت من الفراغ لتذهب إلى لا شيء.
لغة الآباء والأجداد تنتهك من بعض المعلمين في المدارس ممن لا يجيدون دروب صرفها ونحوها ولا يمتلكون ناصية بلاغتها، فيعلمونها للصغار بجهل يطيح بالأسس التعليمية الصحيحة.
وجماليات اللغة ضاعت على ألسنة خدم لا يمتون لعروبتنا بصلة من قريب أو بعيد، فتخرج من تحت أيديهم أجيال يرددون هجيناً مختلطاً ما بين الهندية والاوردية وهوامش العربية المتكسرة الأحرف والضائعة المعنى، وهناك أيضا الباعة في الكثير من المحال التجارية الذين لا هم يتحدثون العربية أو غيرها ما أضاع الهوية العربية بين المتاهات اللفظية، وغيرهم الكثير والكثير، فلا يمكن مثلا أن لا ننتبه أيضا إلى معظم اللوحات الإعلانية التي تحمل عناوين كبيرة بارزة لأسمائها المدونة في غالب الأحيان بصورة مغلوطة من ناحية تقديم أحرف على أخرى، أو متضمنة أخطاء لغوية بالجملة، إضافة إلى معان ليست بالمفهومة على الإطلاق.
كيف ننقذ عربيتنا التي تحتضر أمامنا بلا اكتراث من كثير منا أخذتهم مشاغلهم وادعاءاتهم الزائفة بالتحضر والارتقاء باللسان بعيداً عن أمنا الجميلة؟ كيف نعيد لها احترامها وأصالتها والأهم اهتمامنا نحن بها ولهفتنا الحقيقية على التمسك بها على حساب أية لغة أخرى أو تحريض خارجي خفي بنفضها وإنكارها والتخلص منها؟ ثم وهذا هو السؤال الهدف، هل تحتاج العربية اللغة التي شرفها المولى عز وجل بأن جعلها لغة القرآن الكتاب الأكرم، يوما واحدا سنويا لأن نحتفل بها وهي محتوانا ورمزنا كعرب جميعا، هل يجوز أن نخصص لذواتنا الناطقة بعروبتنا يوما للاحتفال، أو ليس من المستغرب ذلك والمفترض أنها أمسنا ويومنا وغدنا بلا تغريب لها أو اعتبارها من المستجدات المحتفى بها في يوم محدد نضيء لها فيه الشموع، وننثر لها الورود، ونؤكد عزمنا على المضي قدماً في ركبها والسير على نهجها، مفردين ايجابياتها ومبينين مميزاتها، ومعلنين التصميم على التمسك بها.
هل يصح أن نقتطع الجزء الأصيل فينا لنعتبره مستحدثا، ومن ثم نهنئ أنفسنا وغيرنا به يوما واحدا سنويا؟!
التحقيق التالي محاولة بحثية في كيفية العودة إلى جادة الصواب في إرجاع اللغة الأم إلى مكانتها الأولى التي كانت فيها الألسنة تتفاخر بالتحدث بها، وتعتز بأنها تنتمي لها، وتصر دوماً على نطقها والتحدث والتعامل بها.
البداية في تحديد موعد الاحتفالية كانت عام 1999 عندما أرست منظمة اليونسكو فكرة تكريس أهمية اللغة العربية عالمياً وتحديد يوم 21 فبراير/ شباط سنويا موحداً للاحتفاء بها لتعزيزها في المحافل الدولية التي تهمل التعامل بها وتلجأ إلى تصعيد ورفع شأن لغات أخرى لا توازي العربية في أصالتها وحضارتها وقيمتها.
فإذا كانت منظمة اليونسكو حددت موعداً لنا كعرب للاحتفال بلغتنا التي هي هويتنا وقوميتنا ورمز تاريخنا وعزنا فما بالنا نرتضي بإهانتها ونقف مكتوفي الأيدي؟ هناك بعض أقوال سديدة حول مزايا وايجابيات العربية طرحها د. نبيل علي في كتابه “ الثقافة العربية وعصر المعلومات.. رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي” نستقطع منها باختصار قوله التالي: تتميز العربية بخصائص كثيرة تؤهلها لتكون لغة عالمية مثل التزامها بالقاعدة الذهبية فيما يخص التوسط والتوازن اللغوي، فاللغة العربية تجمع بين كثير من خصائص اللغات الأخرى على مستوى جميع فروعها اللغوية: كتابة وأصواتا وصرفا ونحوا ومعجما، وتتسم بتوازن دقيق وتآخ محسوب بين فروع اللغة المختلفة، وعلى المستوى التكنولوجي ثبت انه يمكن تطويع النماذج البرمجية المصممة للغة العربية لتلبية مطالب اللغات الأخرى وعلى رأسها اللغة الانجليزية.
والمزايا العديدة التي تتمتع بها اللغة العربية والتي تؤهلها لتفاعل ايجابي خلاق مع عصر المعلومات وتقنياته المختلفة، تجعلنا في موضع اتهام لضياع لغتنا واستعجامها حتى على أهلها. فالجهود التي تبذل لخدمة اللغة العربية قليلة ومتناثرة واغلبها لا يتفاعل مع مستجدات العصر . كما انه لا توجد فلسفة عربية حقيقية تضع اللغة العربية في مكانها الذي تستحقه في منظومة الثقافة والمنظومة المجتمعية، حتى أصبحت لغتنا سجينة قاعات الدرس، مقيدة بأغلال الإهمال، وأصبح أهلها أنفسهم يظنونها لغة غير جديرة بالعصر (على سبيل المثال يرفض الكثيرون تعريب العلوم برغم نجاح تجربة سوريا في هذا الصدد).
وفي الوقت الذي تدور فيه حرب لغوية طاحنة تعتبر الانترنت اظهر ساحاتها بين اللغات التي تحاول فرض هيمنتها، نلاحظ أن اللغة الانجليزية تفوز بنصيب الأسد حتى الآن فمن الأرقام التي تؤكد هذه الحقيقة على مستوى العالم هي أن 65% من برامج الإذاعة و70% من الأفلام الناطقة و90% من الوثائق المخزنة على الانترنت و85% من المكالمات الهاتفية الدولية باللغة الانجليزية.